ندبة، لأنها ليست جرحًا مفتوحًا بل أثره الباقي بعد أن يلتئم الجلد وتبقى الذاكرة. هي ما تخلّفه الغارات بعد رحيل الطائرات: رقم على ورق، لكنه شعور في الجسد، وصوت في الرأس، ووجه غائب لا يُنسى. "ندبة" تختصر ما لم تقله الإحصاءات، وما لم يشفَ بعد.

ما بعد القصف: الذاكرة التي لا تُشفى في بعلبك – الهرمل

"الرقم 97 في الهرمل ليس مجرد إحصائية... إنه 97 لحظة فزع، و97 عائلة استيقظت على صوت الانفجار، و97 مرة توقفت فيها الحياة." هكذا يصف أحد سكان الهرمل آثار الحرب التي انتهت ظاهريًا، لكنها خلفت في ذاكرة أهلها ما لا يمكن ترميمه. تُظهر بيانات المرصد الوطني للبحوث العلمية (CNRS) أن الهرمل كانت الأكثر تعرضًا للاستهداف الإسرائيلي في قضاء بعلبك – الهرمل، بـ97 غارة موثقة، تليها بعلبك بـ66، وبوداي بـ58.

الأرقام تنطق... ولكنها لا تبكي

تتجاوز هذه الأرقام كونها بيانات مجردة؛ فكل رقم يُخفي وراءه قصة، وربما مأساة. في سرعين التحتا، التي سجلت 45 غارة، أظهرت تقارير قناة الميادين أن القصف أدى إلى تدمير مركز إسعاف ميداني، وتضررت منازل لعائلات بأكملها. وفي بوداي، استُهدفت منشآت زراعية تمثل مصدر رزق لعشرات العائلات، بحسب تقرير نشرته صحيفة الأخبار اللبنانية في مايو 2024.

 ذاكرة حسية محفورة في الصوت والرائحة

تقول سيدة من نبي شيت، حيث سُجل 56 استهدافًا، في لقاء مع قناة الجديد: "بعد أول انفجار، صار ابني يختبئ تحت الطاولة عند أي صوت عالٍ. لم يعد القصف مجرد حدث خارجي، بل صار داخليًا يسكن أجسادنا." الذاكرة هنا لم تُبْنَ فقط في العقل، بل في الحواس: رائحة البارود، لون السماء الحمراء، وصوت الطائرات الذي يسبق الانفجار بثوانٍ... كل ذلك أصبح جزءًا من الشعور اليومي لسكان هذه البلدات.

ما علاقة حرب تموز بهذه الحرب؟

لينا الناجية من حرب تموز 2006, حيث فقدت أخاها وابن عمها في غارة على منزلهم آنذاك، كيف عايشت وتعايشت مع هذه الحرب وأصوات الصواريخ والقصف؟

ما لا تقوله الإحصاءات

بين الأرقام التي ترصدها التقارير، هناك ما لا يُكتب بسهولة: الأطفال الذين فقدوا نومهم، الأمهات اللواتي أعدن ترتيب منازلهن لتكون أقرب إلى الملاجئ، وأصحاب الورش الذين عادوا ليجدوا أماكن عملهم رمادًا. لقد انتهت الحرب، نعم. لكن ما تركته لم ينتهِ. فالذاكرة الجمعية لمناطق بعلبك – الهرمل، خاصة الهرمل التي تصدرت قائمة الاستهداف، أصبحت اليوم أرشيفًا حيًا لحكايات عن الخوف، والمقاومة، والنجاة.

في سردية النجاة بعد الحرب، لا تبقى الأرقام مجرد إحصاءات جامدة، بل تتحول إلى علامات في الذاكرة الجمعية ترمز إلى الألم، الفقد، والنجاة.
فعندما يُقال إن الهرمل تعرضت لـ97 غارة، لا يتلقاها السكان كرقم فحسب، بل كاستدعاء جماعي لتجارب حسية: أصوات الانفجارات، صراخ الأطفال، وانقطاع الكهرباء.
هذه الأرقام تُختزن في الوجدان الشعبي كـ"لحظات مشتركة"، تخلق رواية موحدة عن ما حدث، وتشكل شعورًا جماعيًا بالظلم أو الفخر أو الحزن.
إنها لا تُحصي الضحايا فقط، بل توثق كيف شعر الناس، وكيف نجوا، وماذا فقدوا.

نزوح أو موت

شهدت بعلبك موجة نزوح جماعي بعد أن أقدم جيش الاحتلال على تلوينها بالكامل كمنطقة مباح لصواريخهم، في إنذار واضح بإخلاء المدينة كاملة. آلاف العائلات غادرت منازلها مذعورة، تحمل ما استطاعت من متاع وذكريات، متجهة نحو المجهول. لم يكن التلوين مجرد علامة على الخطر، بل إعلانًا عن تهديد وجودي لمدينة لا تزال تنبض بالحياة رغم كل ما يُراد لها من قهر. النزوح من بعلبك لم يكن قرارًا، بل اضطرارًا في وجه آلة عسكرية لا تفرّق بين مدني ومقاتل، وبين بيت وحلم.

الموت الذي تفرون منه

كيف أخبر قاسم, وهو مسؤول قسم العناية الفائقة في مستشفى في البقاع، زميلتيه عن استشهاد الأخ والزوج، وما وقع الموضوع عليه شخصيا..